ليس خطؤك.. فعلها الأوغاد

اليوم تحدثت مع شاب من الحومة .. أذكره جيدا ، كان شابا وسيمًا أنيقًا يتحدث كثيرًا ، في منتهى الحيويًة و النشاط ، نركب نفس الحافلة من الحومة إلى المدينة ، كنت في بداية التعليم الثانوي و كان هو كبيرا جدا بما يكفي لأفهم وقتها أنه رسب عدة مراة ..
أفهم الآن بعد  أن تحدًثنا لمدة قصيرة جدا أن رسوبه كان واحدا من الأسباب الكثيرة في جعله من المغضوب عليهم .. لكن كانت معاناته أكبر من ذلك..

لم يتحدث معي في كثير من التفاصيل ، أنا أستغرب أنه تحدث معي أصلا ! هو يكبرني كثيرا ، و أنا معروف من الجميع أنني شخص  منطوي جدا ، لا أصلح لأن أكون جليسًا ممتعًا .. ! 
أخبرني بكثير من الدقة و الإيجاز أنه مصاب بمرض خطير لا يعرف الأطباء أسبابه .. بعد ذلك أخرج سيجارة وأشعلها ،  بكثير من الهدوء أخبرني أنه إرتكب ما لا يحصيه من الأخطاء ، أنه لم يصم يوما في حياته ، أنه لم يقدر على التخلي عن السجائر و أن كل من حوله - و خاصة عمٌه مؤذن المسجد - كانوا سببًا مباشرا في معاناته النفسية - هو صعلوك فاسق فاشل على عكس أقاربه الأتقياء  الصالحين جدا والذين  يتبرًؤن  منه - 
قال لي ذلك بكل دقة و وضوح و قليل من السخرية فيها نوع من الحزن ..  فعل كل ذلك كأنه أستاذ في علم النفس و اللإجتماع و الفلسفة ..
يكمل حديثه و يقول أنه شخص سيء جدا لكنه إذا إستطاع الخروج من هذا الجحيم المجتمعي و إذا  إلتزم بواجباته الدينية - وهو ما يجاهد نفسه من أجله حسب قوله - سيكون شخصا أفضل.


(هل أضيف شيئا من عندي حتى أفوز بقصة جميلة ؟ أنا فقط أنقل ما قاله بأسلوبي الخاص)
حسنا سأكون صادقا .. تمنيت أن لا يطيل معي الجلوس وأنا أنظر إلى ذلك المسكين في هيئته تلك خاصة و أنا أجلس في مقهى هادئ جدا و في يوم جميل جدا و في لحظة سعيدة و في فترة راحة قصيرة .. لكنه إمتلكني بأسلوبه .. شعرت أني أجلس بجانب رجل من خرجي جامعة الحياة بشهادة ممتاز ..
المهم .. هو لم يسألني أي سؤال و لم يفسر لي سبب جلوسه بجانبي .. لكني فهمت أنه يستدرجني لأتكلم .. لأقول له ما يخفف من معاناته .. لكن ماذا سيقوله طالب هندسة لا يجبد إلا التعامل مع الأجهزة الإلكترونية و لا يفهم إلا لغة الأرقام .. 
فهمت أنه شخًص مشكلته جيدا و أنه يعرف ما يريده و أنه لا يجلس بجانبي مصادفة - ربما يعرف أني طالب في الجامعة - هو فقط يبحث عن جواب لسؤال واحد : كيف ؟ 
يريد أن يسافر .. أن يبتعد عن الأوغاد .. أن يكون حرا .. أن يصنع لنفسه شيئا ما و أن يغفر الله له ما صنعه هو بنفسه في نفسه ..
حسنا .. الكتب تعلم بعض الشيء ،  لذلك وجدت له  بإجاز شديد ما قد يفيده ..

حتى لا أطيل - فأنا أكتب هذه الكلمات في وقت المفروض فيه أن أستمتع ببعض الهدوء وأدرس- 
بعد أن وصفت له ما خطر لي في تلك اللحضة سألته إن كان يحب أن أحضر له قهوة على حسابي ( أخبرني مسبقا أنه لا يملك مليما واحدا ، لكنه وجد يوم أمس  في الشارع 5 دينارات ، إشترى بها سجائرعلى ما يبدو )
إعتذر قائلا أنه يجب عليه العودة باكرا للبيت حتى يستعد لصلاة الجمعة .. 
شكرني بمنتهى الأدب و غادر ..

أقول صراحة .. شعرت أنه أقرب إلى الله مني ، لكني لم أكتب كل ذلك لكي أبدو كشيخ صوفي ورع ، فلست ذلك الرجل ، و لا حتى قليلا من ذلك ..   
كتبت ذلك لأنني كنت أسمع و أقرأ كثيرا عن أناس كانو فاشلين جدا ، يائسين جدا ، مكروهين جدا.. ثم صاروا من كبار القوم .. اليوم عرفت رجلا ربما سينطبق عليه الوصف ...

أستطيع أن أخرج بنتيجة من حواري مع ولد الحومة ، نتيجة أرتاح لها كثيرا :  نماذج مثل هذا الشاب كثيرون جدا و هم ضحايا لحقيقة يعرفها الجميع وهي أن الأوغاد بيننا أنواع .. هم سبب في ما يعاني منه ولد الحومة  .. هم يرتادون المساجد ، يعتالون المنابر، يضهرون في الإعلام ، يركبون سياراة فاخرة ، يلبسون ربطة عنق أنيقة .. لكنهم أوغاد جدا ...  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هابي بيرثداي